المقالات

الدور الغائب لمراكز الأبحاث في صناعة القرار العربي

الدور الغائب لمراكز الأبحاث في صناعة القرار العربي

تلعب مراكز الأبحاث دورًا حيويًا في تنمية وتطور المجتمعات المتقدمة، لكن لا تزال الكثير من بلادنا العربية لا تعير هذه المراكز الاهتمام الكافي، لذلك نلاحظ أن العديد من دول منطقتنا ما أن تتخلص من أزمة حتى تسقط في دوامة أزمة جديدة.

يرجع ذلك إلى النقص العربي الشديد في دور وعدد مراكز الأبحاث أو ما يُعرف عالميًا بمراكز الـ«Think Tanks»، التي يقع على عاتقها وضع الخطط والبرامج للمشكلات كافة، وطرحها أمام صانع القرار؛ بل أيضًا تقع على عاتق هذه المراكز مهمة التنبؤ وتوقع الأزمات بأنواعها المختلفة قبل حدوثها، بهدف تجنيب الحكومات والمجتمعات أي نتائج وخيمة لتلك الأزمات.
المفارقة أنه رغم ندرة تلك المراكز في دولنا العربية؛ فإن الباحثين أثبتوا أن نشأة تلك المراكز في صورتها الأولى، كان في جامعات أوروبا، وتحديدًا في القرن الثاني عشر، كتقليد للجامعات الإسلامية!

وتعتبر المملكة المتحدة سباقة في إنشاء مثل هذه المراكز، ويعد المركز الملكي للدراسات الدفاعية البريطاني أول مركز عرفه الإنجليز في العام 1830، واللافت أن الإنجليز نقلوا عن العرب والمسلمين، طريقة تمويل هذه المراكز عبر نظام الوقف المتعارف عليه في العالم الإسلامي، وأنشأوا أول وقفية في بريطانيا لهذا الغرض أطلقوا عليها اسم وقفية «ديمورنت» في جامعة أكسفورد الشهيرة بهدف تشجيع الدراسات والأبحاث.
وسرعان ما انتقلت الفكرة من أوروبا إلى الولايات المتحدة؛ حيث ظهر أول مركز أبحاث بشكله الحديث من خلال تأسيس معهد «كارنيغي» الشهير للسلام في عام 1910. ثم تلا ذلك إنشاء معهد «بروكينغز» في عام 1916، ومعهد «هوفر» في عام 1918، ثم مؤسسة «القرن» في عام 1919، وأصبحت الولايات المتحدة من بين البلاد الرائدة في انتشار مراكز التفكير بتخصصاتها المتنوعة، واليوم لا تخلو جامعة أو ولاية من وجود مركز أو أكثر يغطي مختلف مجالات الحياة، بدءًا من بحوث الفضاء والطبيعة والطب والفلك والزراعة إلى البحوث المتعلقة بدراسة سلوك الإنسان الاستهلاكي وطريقة تعامله مع ما يواجهه في حياته اليومية من ظواهر اجتماعية عابرة.

وإذا كان الغرب نقل عن المسلمين طرق تمويل تلك المراكز، فإن قضية تدبير موارد لمثل هذه المراكز لا تزال هاجسًا لدى العديد من الدول خاصة النامية أو التي تعاني من شح الموارد، فقد اهتدى الغرب إلى وسيلة سهلة للخروج من هذا المأزق، وذلك عبر تشجيع العلماء ورجال الأعمال والأثرياء لتخصيص جزء كبير من عوائد أرباحهم للإنفاق على مراكز الأبحاث بأنواعها المختلفة؛ بل وصل الأمر ببعض الأثرياء في الولايات المتحدة أن خصصوا ثرواتهم لتمويل مراكز بحثية حملت أسماءهم، ولذلك يجب أيضًا تشجيع رجال الأعمال والأثرياء في بلداننا العربية أن يحذوا حذوهم في الاهتمام بهذا القطاع الحيوي باعتباره علمًا ينتفع به لا يقل فائدة عن الإنفاق على المؤسسات التعليمية والصحية.

قد يبدو للوهلة الأولى أن مراكز الأبحاث نوع من الترف، لكن التجارب التنموية في أغلب دول العالم، أثبتت أن الفضل في تطور تلك الأقطار ربما يعود إلى الدور الذي لعبته تلك المراكز في وضع الخطط والبرامج المناسبة لنقل مجتمعاتهم من حالة الفوضى والفقر إلى واقع جديد يختلف تمامًا في الشكل والمضمون.
ففي التجربة الصينية على سبيل المثال نجد أن الدولة ممثلة في الحكومة نجحت في القضاء على ظاهرة الفقر في عموم البلاد خلال فترة قصيرة، وتشير الأرقام إلى أن الحكومة الصينية نجحت في إنقاذ 850 مليون مواطن من براثن الفقر، والفضل يرجع في تحقيق هذه المعجزة إلى الدراسات التي اعتمدت عليها الجهات الحكومية في التعامل مع ظاهرة الفقر التي كان يرزح تحت وطأتها نحو 70% من إجمالي سكان الصين.

ومن الصين في أقصى آسيا إلى رواندا في غرب القارة السمراء، فقد مرت تلك الدولة الناهضة بتجربة مريرة من الصراعات والحروب الأهلية البشعة والتي راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان، لكن بالإرادة والعلم وبالأرقام والدراسات العلمية، استطاعت أن تطوي صفحة الماضي الأليم وبدأ قادتها في استحداث وتطبيق وسائل العلم الحديثة لتطوير بلادهم، وخلال أقل من عقدين تحولت العاصمة الرواندية كيجالي إلى واحدة من مراكز النهوض والتنمية ليس فقط على مستوى أفريقيا؛ بل على المستوى العالمي أيضًا.
إذن نحن أمام مهام عديدة ومتنوعة تقع على عاتق مراكز التفكير أو «Think Tanks» كما أن دولنا العربية، ولا سيما اليمن الشقيق في أمس الحاجة لعشرات بل مئات من هذه المراكز التي يمكن بما تقدمه من أفكار ورؤى أن تنقل البلاد من حالة الفوضى وعدم الاستقرار إلى مراحل جديدة من شأنها الاهتمام بتنمية ومستقبل الإنسان اليمني الذي ينبغي أن يكون الاهتمام به وبشؤونه محور تركيز الحكومة الحالية وأي حكومة تتولى المسؤولية في المستقبل.
وأتصور أن الاهتمام بتنمية ونشر وتشجيع إنشاء مراكز الأبحاث في اليمن أو غيرها يعكس درجة نضج مؤسسات الحُكم والإدارة في هذا البلد أو ذاك، وأن هناك أدوارًا مهمة تضطلع بها مراكز الأبحاث في الدول عمومًا والدول المتقدمة خصوصًا من أبرزها تقديم التحليلات العلمية المُعمَّقة حول المشكلات والقضايا الساخنة التي تواجه السياسات العامة، إلى جانب دعم صناع القرار؛ إذ إن رجل الدولة وصانع القرار بحاجة دائمة إلى من يبلور له الخيارات، ويوضِّح له السياسات، ويفصِّل له القضايا بشكل دقيق وعلمي مدروس، لذلك فإن الكثير من الحكومات والأجهزة التنفيذية في أغلب دول العالم المتقدم تعتبر تلك المراكز هيئة استشارية لها وترجع إليها وتستشيرها في طريقة التصدي للأزمات مهما كان نوعها، كما يقوم الخبراء في تلك المراكز بتحديد الأجندات؛ وذلك من خلال تحديد الأولويات وتشخيص المشكلات في القطاعات المختلفة سواء في التعليم أو الصحة أو حتى مكافحة الفقر والجريمة، وتبلور الاقتراحات والبدائل المتنوعة وطرحها على مائدة صانع القرار، مع تحديد التكلفة والعائد لكل بديل، وتقديم التفسيرات والتوجيهات لوسائل الإعلام حول السياسات العامة من خلال نتائج ما تقوم به من بحوث علمية وتطبيقيات ميدانية واستطلاعات الرأي، وكل ما ينبه صانع القرار إلى توقع الأزمات، ووضع تصور عملي لسُبل حلها.
كما تُسهم في توجيه الأنظار إلى المعضلات المجتمعية التي تواجهها برامج التنمية على المستويين المحلي والدولي، خاصة أن العديد من الحكومات بدأت في الاستفادة من مراكز الأبحاث باعتبارها قناة اتصال مفتوحة بين صانع القرار والجماهير بعد أن تحولت تلك المراكز إلى ركيزة أساسية للحكم الرشيد وصناعة القرار السليم.

 

مقالات ذات صلة

دور الشعب في وقف الحرب وإحلال السلام

دور الشعب في وقف الحرب وإحلال السلام

المتواجدون حاليا

43 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

بحث